الثلاثاء، 22 مايو 2012

عن النوبة ومصر وأزمة الهوية (1)



يحلو للبعض الفصل بين النوبه ومصر عند الحديث عن تاريخ المنطقه ويفصلون دائما بين الأثنين ،ويصل بالبعض التطرف بالحديث لدرجه الكلام عن قوميتين او امتين منفصلتين ،هذا النوع من الحديث على الرغم من خطورته يجد القبول لدى بعض القطاعات فى المجتمع (سواء نوبيين او مصريين بشكل عام) وهو فى الأساس كلام مرسل وغير موضوعى ومشبوه من وجهة نظرى وقد يتفق معى الكثيرين فى ذلك وسأحاول ان اشرح فى الأسطر القادمه اسباب رفضى وعدم تقبلى لمثل هذا الحديث.
من المعروف تاريخا ان منطقة الدلتا المصريه كانت جزء من البحر المتوسط ثم انحسرت عنها المياه وتحولت لمنطقة مستنقعات مالحه ولم يأتى ذكرها فى التاريخ إلا مع غزو الهكسوس لمصر القديمه وأقامة عاصمتهم فى شرق الدلتا وأطلقوا عليها أسم (زوان) والتى كانت تعرف بأسم (اورايس)
  وايضا طبقا لعلماء الأثار فغزو الهكسوس كان فى نهاية حكم الأسره الثالثة عشر. وهذه المعلومات التاريخيه المثبته تثير تسأل مهم إذا ماكانت منطقة الدلتا منطقه غير مؤهوله او منطقه مستنقعات او جزء من البحر فأين كانت تقع مملكتى الشمال والجنوب التى وحدهما مينا (موحد القطرين )؟
وإذا اضفنا الى السؤال السابق ما توارد من اخبار عن الأكتشافات التى توصلت اليها البعثات الأثريه  فى منطقة (مروى النوبيه) شمال السودان تلك الأكتشافات التى من المفترض انها ستحدث تغيير جذرى فى شكل التاريخ الذى نعرفه ومن الغريب ان بعض العلماء الغربيين ومعهم بعض المثقفين السودانيين يهللون لتلك الأكتشافات على انها تثبت ان الحضاره بدأت بالسودان ثم انتقلت الى مصر ويتناسون ان الحدود الفاصله بين السودان ومصر لم تظهر للوجود إلا عام 1899 ميلاديا تنفيذا لأتفاقية الحكم الثنائى للسودان المبرمه بين مصر وانجلترا ولكنى لست بصدد الحديث عن هذا الامر الأن وما يهمنى هو ان تلك الأمور تصب فى مصلحة اثبات ان ما يطلق عليه التاريخ المصرى القديم بدء فى اقصى الجنوب وامتد الى الشمال وان القطرين اللذان قام الملك مينا بتوحيدهما كان يقعان جنوبا وينتهى الجزء الشمالى منهما جنوب الدلتا المصريه.
 ومن الطبيعى ان تلك الدوله المركزيه التى اسسها الملك مينا كانت تمر بفترات ضعف تؤدى الى تفككها النسبى وتمضى الأمور حتى يظهر ملك او حاكم قوى سواء فى الأقليم الشمالى كــ(سيتى الأول _ مؤسس الأسره الثامنة عشرووالد رمسيس الثانى) او فى الأقليم الجنوبى  كـ(بعنخى _ مؤسس الأسره الخامسه والعشرون التى عرفت بأسم الفراعنه السود) فيعيد للدوله المركزيه هيبتها ويؤسس دوله قويه تفرض سيطرتها على المناطق المحيطه بها .
كما ان حدوث غزو خارجى لا يستطيعون صدوه كان يجبرهم على التقهقر جنوب كما حدث عندما غزا الهكسوس مصر واجبروا أخرملوك الأسره الثالثه عشرعلى التقهقر والتحصن بمدينه طيبه (الأقصر)،وايضا عندما غزا الأشوريين مصر اجبروا أخرملوك الأسره الخامسه والعشرين على التقهقر والتحصن بمدينة نباتا (التى تقع عند الشلال الرابع للنيل فى شمال السودان حاليا) وتقريبا كان هذا التقهقر الأخيرالذى انتهت به حقبه الأستقلال وتوالى الغزاه  الذين كان يخرج بعضهم بعض ويسيطر على المنطقه .
وهكذا ومما سبق يمكن الجزم والتأكيد بشكل على ان التارخ السحيق لمصر والنوبه كان تاريخا واحد مر بفترات مختلفه كما بينت فى الأسطر السابقه  وهو رأى أعلم تماما أنه يخالف الرأى السائد والذى يتبناه الكثيرين عن هذا الموضوع  وأعلم  انه سيصدم الكثيرين وسيفتح على ابواب كثيره للهجوم من الرافضين لتلك الفكره ولكن تلك هى قناعتى الشخصيه وفهمى المتواضع لتلك الحقبه السحيقه من تاريخ مصر واعترف اننى لست متخصص فى علم الأثار ولكن تلك الرؤيه لذلك التاريخ تكونت لدى من خلال قرأتى المتواضعه لما ينشر من اكتشافات اثريه ودراسات تاريخيه تثير اهتمامى منذ سنوات طويله وايضا من خلال متابعتى لما ينشره الأستاذ بسام الشماع (المحاضر المعروف والمتخصص فى التاريخ المصرى القديم ) .
 وأثق تماما أن توالى الأكتشافات الأثريه ستثبت صحته ، وأثق ان ما ذهبت اليه من فهم لهذا الموضوع سيقابل بالرفض ممن يروجون لفكرة وجود حضارتين مختلفتين فى المنطقه هى (النوبيه والمصريه) لأن كلامى هذا يهدم فكرتهم التى يستخدموها لأظهار ان النوبيين عنصر دخيل على مصروأن هناك فرق واختلاف بين (النوبيين والمصريين) وهو كلام يلاقى ترحيب وقبول من تيارات كثير داخل المجتمع فى مصر (سواء نوبيين اوغير نوبيين) لأن مثل ذلك الخطاب يحقق اهداف البعض ويريح البعض الأخر ولنرى سويا كيف يمكن لهذا الكلام الذى يفصل مصر عن النوبه وينسخ النوبه عن مصر ان يريح البعض من الذين لا يرون فى مصر إلا العروبه والأنتماء للقوميه العربيه ولا تتقبل عقولهم فكرة وجود مصريين لا ينتمون عرقيا إلى الجنس العربى وتعريف المصريه عندهم هو العروبه ولا شئ غيره وليس ببعيدا علينا ما كتبه جمال حمدان عند تعرضه للنوبيين فى كتابه (شخصية مصر ) والذى جاء فيه بالنص ((ومثل هذا يقال عن أسفين النوبيين. فهم وإن مثلوا جيبا محليا واضحا, إلا أنهم كأقلية لغوية يقعون على أقصى هوامش المعمور والرقعة السياسية وعددهم ليس بالكبير –نحو 50 ألف حاليا. وحتى بعد هذا فمن الخطأ اعتبارهم أقلية في أي معنى، فهم ليسوا أكثر من "قبيلة" متميزة نوعا في الجسم الكبير، وإذا كانت لهم لغة خاصة فهي لسان داخلي يجمع بينها وبين العربية, وسيلاحظ أنه منذ مشاريع الري في خزان أسوان, وبصفة أخص السد العالي, حدثت عملية انتشار وانصهار للنوبيين في تضاعيف السكان بحيث نرى تركزهم كجماعة محلية أخذا في الذوبان، وعملية تمام تمصيرهم آخذة في الإسراع(
ولن اناقش كل ما كتبه عالم الجغرافيا والمفكرالكبيرولكن تستوقفنى هنا الجمله الأخيره (، وعملية تمام تمصيرهم آخذة في الإسراع )  ويظهر جاليا من تلك العباره ان التمصير الذى يقصده جمال حمدان هوالتحدث بالعربيه واهمال ماوصفه(لغة خاصة فهي لسان داخلي) وهذه الكلام يدل على طريقة تفكير بعض المثقفين المصريين الذين وعلى الرغم من تمتعهم بقدر عالى من الثقافه والمعرفه ولكن ينظرون إلى مصر أو يعرفون مصر من خلال أنتمائهم هم للفكر القومى العروبى الذى لا يرى فى مصر إلا الجانب العربى وشرط المصريه عندهم هو الأنتماء للثقافه العربيه وبالنسبه لأصحاب هذا الفكر يصبح موضوع الحضارتين او الأمتين او القوميتين مستساغ ومقبول لديهم وهناك ايضا نوعا اخر وهما المتطلعين الى الغرب او (المستغربين) اللذين تأثروا بأفكار ( برتراندراسل )وغيره من المفكرين الغربيين وايضا متأثرين ببعض الكتابات العبرانيه التى تتحدث عن تقسيم العالم ما بين (سام وحام وارى ويافث) وغيرها من الخزعبلات التوراتيه الغير مؤكده فلا يرون حضاره إلا الساميه او القوقازيه البيضاء ويأتى على رأس هذا النوع  من وجهة نظرى عالم الأثار المصرى زاهى حواس الذى ينفى إى إصول افريقيا للحضاره المصريه القديمه ويحاول بشتى الطرق اظهار وخلق الأختلافات التى تدلل على اختلاف الحضاره النوبيه عن الحضاره المصريه حتى يثبت صحة ما يراها عن قوقازية الحضاره المصريه القديمه وهو كلام مبنى على اكتشافات اثريه غير مكتمله كما سبق وبينت من قبل ونضيف الى هذان التياران تياراً ثالثا هو تيار الأسلام السياسى الذي يرفع اصحابه راية الأسلام ويظهرون انهم مدافعين عن الأسلام من أجل الوصل الى اغراضهم الخاصه وهؤلاء لا يرون فى مصر إلا الحضاره الأسلاميه العربيه وينسون ما دونها ولذلك فهم يتقبلون ويروجون لفكرة الفصل بين النوبه ومصرولذلك يصبح ما قاله عصام العريان (نائب رئيس حزب الحريه والعداله - الذراع السياسى للأخوان المسلمين) حين وصف النوبيين بالغزاه امرا متسق مع قناعاته الفكريه التى سبق وشرحتها وهذا الوصف اثار استياء الكثير من النوبيين وانا منهم لأنه يناقد فهمنا للعلاقه بين مصر والنوبه ذلك الفهم الذى سبق وشرحته ولكنه فى نفس الوقت يعطى دليل على كيفية رؤية تلك الجماعه التى تملك الأغلبيه البرلمانيه لنا كنوبيين ولا انكر ان ما قاله العريان يجد قبول عند قطاع من النوبيين وذلك لأنهم يقرؤن التاريخ من نفس الزاويه التى يقرأه منها ليس العريان وجماعته فقد بل ايضا القوميين والمستغربين الذين سبق لى الحديث عنهم فى الأسطر السابقه ولكن هذا الحديث او الكلام قد يؤدى الى حدوث مشاكل مستقبليه لايعلم عواقبها إلا الله وحده .
 وحتى لا اطيل أرى اننى يتوجب على ان أتوقف عند هذا الجزء على ان أرجئ الحديث عن التداعيات والمشاكل التى يمكن ان تنتج نتيجة أصرار البعض على فصل تاريخ النوبه ومصر إلى المقال التالى .